فصل: مسألة أفلت منه فرس فاتبعه حتى أخذه ورجع إلى مصلاه:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: البيان والتحصيل والشرح والتوجيه والتعليل لمسائل المستخرجة



.مسألة صلى بالطائفة الثانية في الخوف فلما جلس ذكر سجدة نسيها:

قال سحنون: سألت ابن القاسم عن الإمام في صلاة الخوف؛ إذا صلى بالطائفة الأولى ركعة، ثم ثبت قائما وأتم القوم ومضوا، ثم أتت الطائفة الثانية فصلى بهم ركعة، فلما جلس ذكر سجدة نسيها لا يدري من الأولى أو من الثانية؟ قال: يسجد سجدة وتسجد معه الطائفة الثانية، ثم يقوم ويثبت قائما، وتصلي الطائفة التي معه بقية الركعة الثانية تمام صلاتهم- وحدانا، لا يؤمهم أحد، ويسجدوا بعد السلام، وتأتى الطائفة الأخرى فيصلي بهم الإمام هذه الركعة التي احتاط بها، ثم يقعد ويسلم، ويسجد للسهو، وتقوم الطائفة الأولى فتتم ركعتها لأنفسها، فإن كانت السجدة التي نسي الإمام من الركعة الأولى، فقد كانت صلاتهم باطلة، وهذه التي صلوا مع الإمام، هي أول صلاتهم، وهي فريضة؛ وإن كانت سجدة من الركعة الثانية التي كان فيها الإمام قاعدا، فقد كانت صلاتهم تامة، وهذه التي صلوا مع الإمام نافلة.
قال محمد بن رشد: قوله وتسجد معه الطائفة الثانية، معناه إن شكت بشك الإمام، فتصح لها الركعة وتصير هي الطائفة الأولى، لاحتمال أن تكون السجدة من الركعة الأولى، فتكون قد بطلت، وصارت الثانية هي الأولى، وقد قيل إنهم يعيدون، لاحتمال أن تكون السجدة من الركعة الثانية، فتصح صلاة الأولين بصحة الركعة الأولى، ويكون هؤلاء هم الطائفة الثانية- على حالهم- وقد سلموا قبل إمامهم، وهو قول ابن عبدوس، ولو أيقنوا بسلامة الركعة التي صلوا معه، لما سجدوا معه سجدة التحري- على ما لابن القاسم في رسم باع شاة من سماع عيسى، ولا وجبت عليهم إعادة باتفاق، لتحققهم أنهم قد صاروا هم الطائفة الأولى؛ وذلك إن كانت الطائفة الأولى تشك في السجدة بشك الإمام، أو توقن بإسقاطها، وأما إن كانت لا تشك في أنها سجدت سجدتين فصلاتهم تامة، ويقضي الإمام تلك الركعة- وحده- قبل أن تقوم الطائفة الثانية التي معه لقضاء ركعتهم، ثم يسلم بهم- وبالله التوفيق.
تم كتاب الصلاة الرابع بحمد الله وحسن عونه.

.كتاب الصلاة الخامس:

.مسألة الكتابة في القبلة بالصبغ شبه آية الكرسي أو نحوها:

كتاب الصلاة الخامس من سماع موسى بن معاوية الصمادحي من ابن القاسم:
مسألة قال موسى بن معاوية الصمادحي: سئل ابن القاسم عن المساجد هل يكره الكتاب فيها في القبلة بالصبغ شبه آية الكرسي أو نحوها من قوارع القرآن: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [الإخلاص: 1]، والمعوذات، ونحوها؟
قال ابن القاسم: كان مالك يكره أن يكتب في القبلة في المسجد شيء من القرآن، أو التزاويق، ويقول: إن ذلك يشغل المصلي؛ قال: ولقد كره مالك أن يكتب القرآن في القراطيس، فكيف في الجدران؟
قال محمد بن رشد: هذا مثل ما في المدونة من كراهية تزويق المسجد، والعلة في ذلك ما يخشى على المصلين من أن يلهيهم ذلك في صلاتهم؛ وقد مضى بيان هذا المعنى من الحديث في رسم سلعة سماها، ورسم الشجرة تطعم بطنين في السنة من سماع ابن القاسم، ومضى في رسم سلف في حيوان منه؛ وجه كراهية مالك لكتابة القرآن في القراطيس أسداسا وأسباعا، فكتاب شيء من القرآن في قبلة المسجد، مكروه عند مالك لوجهين، وقد خفف ذلك ابن نافع، وابن وهب في المبسوطة، وقول مالك أولى وأصح في المعنى.

.مسألة ينزل الماء في عينيه فيريد أن يقدحهما:

قال: أخبرنا موسى بن معاوية الصمادحي، وسحنون، قالا: أخبرنا علي بن زياد أنه سأل مالكا عن الذي ينزل الماء في عينيه، فيريد أن يقدحهما، فيخبره الطبيب أنه إن قدحهما استلقى على ظهره ثلاثة أيام لا يقوم ولا يقعد؛ ما ترى أن يصنع؟ قال مالك: بل يقولون أربعين يوما، لا أدري ما هذا؟ وأبى أن يجيب فيه.
قال محمد بن رشد: قد أجاب في المدونة بأن ذلك مكروه، لا خير فيه. قال ابن القاسم- بعد هذا- في هذا السماع: فإن فعل، قام فصلى- وإن ذهبت عيناه. قال في المدونة: فإن لم يفعل وصلى إيماء أعاد أبدا في الوقت وبعده. وهذا على قياس قول مالك في رسم الصلاة الثاني من سماع أشهب في الذي يركب السفينة وهو لا يقدر على السجود فيها إلا على ظهر أخيه؛ لأن الأصل في ذلك واحد، فلم يعذره بالزحام ولا بالمرض الذي أصابه من قدح عينيه؛ لأنه هو الذي أدخل ذلك على نفسه باختياره، ولو شاء لم يفعل، وقد روى ابن وهب عن مالك أنه يجوز له أن يقدح عينيه ويصلي على قدر طاقته من الإيماء، وتجزئه صلاته؛ وهو قول جابر بن زيد من تابعي أصحاب رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بعد هذا في هذا السماع، ووجه ذلك القياس على ما أجمعوا عليه من أن للرجل أن يسافر- وإن علم أنه يعدم الماء في سفره فينتقل إلى التيمم، فكما يجوز له أن يسافر وإن أوجب ذلك عليه الانتقال من الوضوء إلى التيمم، فكذلك يجوز له أن يقدح عينيه وإن أوجب ذلك عليه الانتقال من الركوع والسجود إلى الإيماء.
والفرق بين الموضعين على القول الأول، هو أن التيمم بدل من الوضوء عند عدم الماء بنص القرآن، وليس الإيماء ببدل من الركوع والسجود؛ لأنه إذا أومأ فيهما فقد أتى ببعض الانحطاط إليهما، وترك تمامهما دون أن يأتي لما ترك من تمامها ببدل؛ فماله بدل إذا عجز عنه وجب عليه بدله، وما ليس له بدل- إذا عجز عنه سقط وبرئت منه ذمته؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلا وُسْعَهَا} [البقرة: 286]. فجاز فيما له بدل أن يفعل ما يضطره إلى البدل، وعلى هذا أجاز مالك لصاحب الحقن الشديد أن يفطر، ويتداوى إذا ألجأ إلى ذلك- وإن كان قادرا على الصيام وترك التداوي دون مرض يصيبه في ذلك- والله أعلم؛ ولم يجز فيما لا بدل له أن يفعل ما يضطره إلى ترك الفرض جملة، فهذا وجه القول الأول.

.مسألة يصلي على العذرة اليابسة:

وسئل ابن القاسم عن الذي يصلي على العذرة اليابسة أو الدم اليابس أو المكان القذر، مثل المزابل ونحوها- ولا يشعر، ثم يعلم بعد. قال مالك: يعيدها ما كان في الوقت. قال: وما يصيب الأرض من ذلك مثل ما يصيب الثوب.
قال محمد بن رشد: هذا هو المشهور في المذهب: أن من صلى بثوب نجس، أو على موضع نجس- وهو لا يعلم أعاد في الوقت، والوقت في ذلك إلى اصفرار الشمس؛ قال ابن المواز: فإن صلى به أو عليه- وهو لا يقدر على غيره- مضطرا إلى ذلك، أعاد إلى الغروب، وقد روي عن مالك أنه يعيد إلى الغروب في المسألتين جميعا، ومعنى ذلك أن يدرك الصلاة كلها قبل الغروب، وأما إذا لم يدرك قبل الغروب إلا بعضها، فقد فاته في هذه المسألة وقتها- والله أعلم. وأما إذا كان جاهلا أو متعمدا من غير ضرورة، فإنه يعيد أبدا، بدليل هذه الرواية، وهو المشهور في المذهب، وقد مضى ذكر الاختلاف في ذلك في رسم المكاتب من سماع يحيى، فقف على ذلك هناك، وبالله تعالى التوفيق.

.مسألة يصلي فيخطف رداؤه عنه:

قال: وسئل عن الرجل يصلي فيخطف رداؤه عنه، هل له أن يخرج ويقطع الصلاة ويطلب خاطفه، أم لا يقطع ويصلي ويدع رداءه يذهب؟ وعن الرجل يخاف على الشيء من متاع البيت السرق والحرق والفساد، مثل قلة الزيت، أو الماء، أو الخل، تقلب فيهراق ما فيها، هل يسعه أن يسويها ويرجع في صلاته؟ ومثل ذلك زقاق الزيت، أو الخل، ونحوه، يخاف عليها أن تنشق أو تنفسخ، أو يفسدها شيء- وهو يصلي، هل يصلح الزقاق ويربطها ويرجع في صلاته؛ أو يقطع صلاته ويستأنف؟ فقال ابن القاسم: إذا خطف ثوبه في الصلاة، فلا بأس أن يقطع ويذهب في طلب الذي أخذه، ويستأنف إذا رجع؛ وأما مالك فكان يكره نحوه، وذلك أني سألته عن الذي يكون في الصلاة فيرى الشاة تأكل الثوب، أو العجين؛ فقال: إن كان في فريضة، فلا يقطع؛ وأما الرجل يصلي وفي البيت قلة أو شيء يخاف عليه أن يهراق، فإن سألت مالكا عن الرجل يقرأ فيتعايا في قراءته، فيأخذ المصحف ينظر فيه- وهو بين يديه- فكرهه، فهذا مثله.
قال محمد بن رشد: قد تقدم الكلام على هذه المسألة في رسم صلى نهارا ثلاث ركعات من سماع ابن القاسم مجودا، فلا معنى لإعادته.

.مسألة سؤر الهرة:

قال الصمادحي: وحدثني عبد العزيز الدراوردي، «عن داود بن صالح، عن أمه قالت: بعثتني مولاتي بهريسة إلى عائشة رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا فجئت وهي تصلي- فأشارت إلي أن أضعها، فجاءت هرة فأكلت منها، فلما قضت الصلاة قالت لنسوة عندها كلن، قال: فأكلن واتقين موضع الهرة؛ فقالت: كلن فإني سمعت رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: إنها ليست بنجس، إنها من الطوافين عليكم».
قال محمد بن رشد: زاد بعض الرواة في الحديث أنها قالت: «وقد رأيت رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يتوضأ بفضلها، وأنها دورتها ثم أكلت من حيث أكلت الهرة». وهذا من فعل عائشة في أكلها من الموضع الذي أكلت منه الهرة، وأمرتهن بذلك، لما سمعته من النبي- عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ- مثل فعل أبي قتادة في حديث الموطأ: إذ أصغى لها الإناء حتى شربت، ثم توضأ بسؤرها. وإلى هذا ذهب مالك رَحِمَهُ اللَّهُ وجميع أصحابه في أن سؤر الهرة طاهر، إلا أن يوقن أنه كان في فيها أذى؛ خلافا لما ذهب إليه أبو حنيفة وغيره من أنه نجس، لما روي عن أبي هريرة من أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: «طهور الإناء إذا ولغ فيه الهر، أن يغسل مرة أو مرتين»، وهو حديث يوقفه بعض الرواة على أبي هريرة، ولم ير ذلك من ذهب إلى نصرة مذهب أبي حنيفة علة فيه، وضعف حديث أم داوود، لكونها غير معروفة عند أهل العلم بالحديث؛ وقال في حديث أبي قتادة: إنه ليس فيه طهارة سؤر الهرة إلا من فعل أبي قتادة؛ إذ قد يحتمل أن يكون أراد النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنها ليست بنجس في كونها في البيوت ومماستها الثياب.
قال محمد بن رشد: أبو قتادة ألحن بمراد النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ممن بعده، ويحمل ما روي عنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ والله أعلم.

.مسألة صلى بقوم فمرت به حية أو عقرب:

وسئل ابن القاسم عن إمام صلى بقوم فمرت به حية، أو عقرب، فيقتلهما أو يرمي طيرا بحجر فيقتله، أو يأخذ قوسا فيرمي به صيدا فيقتله- عامدا غير ناس؛ قال ابن القاسم: خلائه كان مالك قتل الحية والعقرب في الصلاة. قال ابن القاسم: فإن فعل ولم يكن في ذلك شغل عن الصلاة، فلا شيء عليه؛ وكذلك قتل الحية، والطير- يرميه- لا شيء عليه في ذلك، وقد أساء في رميه الطير، ولا يفسد ذلك صلاته إلا أن يطول ذلك، فإن رماه بحجر يتناوله من الأرض، فلا شيء عليه- ما لم يطل ذلك.
قال محمد بن رشد: قد روي عن النبي- عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ- من رواية أبي هريرة «أنه أمر بقتل الأسودين في الصلاة: الحية والعقرب». وهو حديث حسن من جهة الإسناد، والمعنى في ذلك عند مالك رَحِمَهُ اللَّهُ إذا أراداه. وكذلك قال في أول سماع عبد الملك- بعد هذا- إنه لا يقتلهما إلا أن يريداه، فإذا أراداه، جاز له أن يقتلهما ويتمادى على صلاته، إلا أن يطول ذلك ويكثر الشغل به، فيبتدئ صلاته، وأما إذا لم يريداه، فلا ينبغي له- عنده- أن يشتغل بقتلهما في صلاته، فإن فعل فقد أساء، ويبني على صلاته، إلا أن يطول ذلك فيبتدئ، ومن أهل العلم من أجاز له أن يقتلهما- وإن لم يريداه على ظاهر الحديث، وذلك فيما أمر بقتله من الحيات وهن ذوات الطفيتين، والأبتر، وما سوى حيات المدينة، وعمار البيوت من غيرهن- على الاختلاف في النهي عن قتل عوامر البيوت؛ هل ذلك خاص بالمدينة، أو عام فيها وفي سواها؟ فأما ما سوى الحية والعقرب: من صيد، أو طير، أو ذرة، أو نملة، أو بعوضة، أو قملة؛ فلا اختلاف في أن قتل شيء من ذلك في الصلاة مكروه لا ينبغي، فإن فعل، لم تبطل صلاته إلا بما كان من ذلك فيه شغل كثير، وقال في الرواية إنه إن أخذ القوس فرمى به الصيد، أو تناول الحجر من الأرض، فرمى به الطير، لم تفسد صلاته- إذا لم يطل، وذلك إذا كان جالسا- والحجر أو القوس إلى جنبه، فتناولهما ورمى بهما، وأما لو كان قائما، فتناول الحجر، أو القوس من الأرض، ورمى بهما، لكان بذلك مبطلا لصلاته، وما مضى في رسم صلى نهارا ثلاث ركعات من تفسير المسألة المتقدمة قبل هذا، هو من هذا المعنى، فقف عليه وتدبره.

.مسألة أفلت منه فرس فاتبعه حتى أخذه ورجع إلى مصلاه:

وحدثنا المسيب بن شريك، عن زياد بن أبي زياد، «عن الأزرق بن قيس، قال: كنا بشاطئ مهران، فجاء رجل على فرس له فنزل عنه يصلي، فأفلت منه فاتبعه حتى أخذه ورجع إلى مصلاه، فقال بعضنا: ما أهون على هذا صلاته، فسمع الرجل، فجاء فوقف بنا، فقال: قد سمعت قائلكم، سمعت رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: إذا انفلتت دابة أحدكم- وهو يصلي- فليتبعها حتى يأخذها ويرجع إلى صلاته، لا يشتد عليه طلبها».
قال محمد بن رشد: الرجل المذكور في الحديث، هو أبو برزة الأسلمي، وليس فيه بيان قدر ما اتبع فرسه إليه في قلة ذلك من كثرته، ولا إن كان رجع إلى مصلاه، فابتدأ صلاته من أولها أو بنى عليها، فإن كان أراد أنه رجع إلى مصلاه، فبنى على صلاته، فيحمل أمره على أن اتباعه إياه لم يكثر، إنما مشى إليه قليلا عن يمينه، أو عن يساره، أو أمامه، وإن كان أراد أنه قطع صلاته فاتبع فرسه حتى أخذه، ثم رجع إلى مصلاه فابتدأ صلاته؛ فالمعنى في ذلك أنه بعد عنه، أو صار خلفه، فاحتاج أن يستدبر القبلة إليه، وهذا هو قول مالك في المدونة أنه يقطع ويبتدئ- إن بعدت عنه دابته- قداما، أو يمينا أو شمالا، أو صارت خلفه، وهذا إذا كان في سعة من الوقت، وأما إذا كان في خناق منه فإنه يتمادى على صلاته- وإن ذهبت دابته، ما لم يكن في مفازة، ويخاف على نفسه إن ترك دابته حتى يصلي- على ما قالوا في الحاج يقبل إلى عرفة قرب الفجر- ولم يصل المغرب والعشاء؛ وهو إن مضى إلى عرفة وترك الصلاة أدرك الوقوف، وإن صلاهما فاته الوقوف والحج في ذلك العام، أنه يبدأ بالصلاة- وإن فاته الحج؛ لأنه قد يلزمه من النفقة والمؤنة في الحج- عاما قابلا أكثر من قيمة الدابة أضعافا، وهذا على القول بأن الحج على التراخي، وأما على القول بأنه على الفور، فهما فرضان قد تزاحما في وقت واحد، فالبداية بالوقوف أولى؛ لأن تأخير الصلاة التي يقضيها بالقرب، أولى من تأخير الحج الذي لا يقضيه إلى عام آخر، ولعل المنية تخترمه دون ذلك،- وبالله التوفيق.

.مسألة أغلق الباب وهو في الصلاة:

وحدثني عن المسيب بن شريك، قال: حدثني محمد بن عبيد الله، عن عطاء، عن عائشة، قالت: «أتت هدية- والنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يصلي، وأنا نائمة، فكسلت أن أقوم فأفتح الباب، فمضى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حتى فتح الباب، ورجع إلى مصلاه؛ ثم خرج صاحب الهدية، فكسلت أن أقوم فأغلق الباب، فمضى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حتى أغلق الباب ورجع إلى مصلاه».- قال الصمادحي: وكانت نافلة.
قال محمد بن رشد: قول الصمادحي إنها كانت نافلة صحيح، بدليل أن الفريضة إنما كان يصليها في المسجد بالناس لا في بيته، والمعنى في ذلك- والله أعلم- أن الباب كان في قبلته، وكان قريبا من مصلاه، فتقدم إليه في فتحه وغلقه، ثم رجع القهقرى إلى مصلاه في صلاته- دون أن يستدبر القبلة، وهذا جائز أن يفعل في النافلة، وفي الفريضة أيضا- إذا دعت إلى ذلك ضرورة، كالمسألة التي قبل هذه، وبالله سبحانه وتعالى التوفيق.

.مسألة صلى بمن معه ركعة فكلمه إنسان في حاجة وكلمه الإمام مجيبا له غير ساه:

وسئل ابن القاسم عن إمام صلى بمن معه ركعة، فكلمه إنسان في حاجة، وكلمه الإمام مجيبا له غير ساه؛ هل تفسد صلاته وصلاة من خلفه؟ فقال ابن القاسم: يعيد ويعيدون، وكل ما تعمده الإمام مثل أن يحدث فينهض بهم في صلاتهم- عامدا، أو يكون جنبا فيتعمد الصلاة بهم، فإنه يعيد ويعيدون.
قال محمد بن رشد: هذا معلوم من مذهب مالك وأصحابه، أن الإمام إذا قطع صلاته- متعمدا، أو أحدث فيها متعمدا، أو تمادى فيها بعد حدثه متعمدا، أنهم بمنزلته فيما يجب عليه من الإعادة في الوقت وبعده، حاشا أشهب، وابن عبد الحكم، فإنهما ذهبا إلى أن الإمام إذا صلى بالقوم على غير وضوء- متعمدا، أو أحدث فتمادى بهم متعمدا- وهم لا يعلمون أنه لا إعادة عليهم، وقد مضى في رسم يدير ماله من سماع عيسى وجه قول أشهب، وابن عبد الحكم، وتفرقة ابن القاسم بين أن يحدث الإمام في أثناء صلاته، أو بعد التشهد الآخر، فيتمادى بهم- متعمدا حتى يسلم بهم؛ فقف على ذلك هناك.

.مسألة صلى بقوم فنعس:

وسئل ابن القاسم عن إمام صلى بقوم فنعس في بعض صلاة النهار، حتى استثقل نوما، فلم يستيقظ حتى سبح به القوم، هل تنتقض صلاته وصلاة من خلفه، أم تنتقض صلاته- وحده؟ وهل يكون عليه وضوء النوم- وهو قائم؟ فقال ابن القاسم: هذا كله قريب، وليس عليه شيء- وإن طال ذلك.
قال محمد بن رشد: وهذا كما قال؛ لأن النوم ليس بحدث في نفسه، وإنما هو سبب للحدث، فلا ينتقض الوضوء منه، إلا ما يخشى إن كان منه حدث ألا يشعر به؛ والإمام إذا نام في صلاته فلا يبلغ هذا الحد دون أن يسبح به القوم، ولم يبين في الرواية على أي حال كان نومه؛ فإن كان في الركوع، أو السجود، فجوابه على القول بأن النوم في تينك الحالتين لا ينقض الوضوء إلا أن يطول، وقد مضى القول في تفصيل أحوال النائم في حال نومه في رسم سن من سماع ابن القاسم، فلا معنى لإعادته.

.مسألة الأمة تدخل في الصلاة وهي أمة ثم يدركها العتق وهي في الصلاة:

وسئل ابن القاسم عن الأمة تدخل في الصلاة- وهي أمة، ثم يدركها العتق- وهي في الصلاة، وليس عليها خمار ولا مقنعة، وليس عندها ولا قربها ثوب، أتمضي في الصلاة؟ أم تقطع وتستأنف؟ قال ابن القاسم: إذا كان قربها ثوب فأخذته فاستترت به، رجوت أن يجزئها، وأحب إلي- إن كانت صلت ركعة، أن تضيف إليها ركعة أخرى وتجعلها نافلة، وتبتدئ الصلاة؛ وكذلك لو لم يكن عندها ثوب إن أعتقت- وهي قد صلت ركعة، أضافت إليها أخرى وابتدأت الصلاة؛ وكذلك قال مالك فيما يشبهه في المسافر يصلي بعض الصلاة، ثم ينوي الإقامة؛ قال مالك: أحب إلي أن يعيد، فكذلك مسألتك؛ لأنها دخلت نيتان.
وسئل ابن القاسم عن المسافرة تصلي في ثوب وخمار أو مقنعة، فيطرح الريح خمارها أو مقنعتها عن رأسها، فتبعدها عنها، فإن اتبعتها انحرفت عن القبلة؛ أتمضي في صلاتها، أم تقطع؟ قال ابن القاسم: أما إذا كانت قريبا تتناوله فلا بأس به، وأما إذا تباعد ذلك، فإنها تسلم وتستأنف.
قال محمد بن رشد: قد مضى القول في رسم استأذن من سماع عيسى في الأمة تعتق في الصلاة، أو يأتيها الخبر بالعتق فيها- وهي مكشوفة الرأس، مستوعبا مستوفى، فلا وجه لإعادة القول في ذلك- هنا- مرة أخرى، وقد مضى أيضا في رسم لم يدرك منه تحصيل الاختلاف في المسافر ينوي الإقامة بعد أن دخل في الصلاة، فتأمله هناك؛ وأما مسألة المسافرة تدخل في الصلاة بقناع فيطرح الريح خمارها عنها، فهي مسألة صحيحة لا يدخلها من الاختلاف ما يدخل المسألتين المذكورتين، وإنما ساقها حجة لقوله في هذه الرواية: وكذلك حق ما جعل أصلا لما اختلف فيه أن يكون متفقا عليه.

.مسألة إمام صلى بثوب واحد فلما ركع سقط الثوب:

وسئل ابن القاسم عن إمام صلى بثوب واحد- متوشحا به، فلما ركع سقط الثوب عن عاتقه إلى الأرض، وانكشف فرجه ودبره، فذهب ليأخذه ويتوشح به، فلم يقدر حتى رفع من الركعة، وعجل بالرفع قبل أن يتمها؛ ما ترى في صلاته وصلاة من خلفه؟
وكيف الأمر في الركعة الناقصة هل تجزئه أم يعيدها؟ وكيف ينبغي أن يصنع حين رفع، أيرجع أم يعيد الركعة؟ وهل يضره سقوط الثوب عنه حين انكشف؟ فقال ابن القاسم: إذا أخذ ثوبه ساعتئذ، وإن رفع من الركعة قبل أن يأخذ ثوبه، فلا شيء عليه- إذا تقارب ذلك ولم يتباعد؛ قال سحنون: فإن نظر القوم إلى فرجه- منكشفا، أعاد الصلاة كل من نظر إليه- منكشفا، ولا شيء على من لم ينظر إليه.
قال محمد بن رشد: أجاز ابن القاسم صلاته ولم ير عليه شيئا- وإن انكشف فرجه ودبره فيها بسقوط ثوبه عنه- إذا أخذه بالقرب، وإن كان بعد أن رفع من الركعة قبل أن يتمها.- أي قبل أن يتمكن في ركوعها، ولو لم يأخذه بالقرب، لأعاد في الوقت على أصله في رسم استأذن من سماع عيسى، من أن ستر العورة من سنن الصلاة، لا من فرائضها؛ وسيأتي على القول بأن ذلك من فرائضها، أن يخرج ويستخلف من يتم بالقوم صلاتهم فإن لم يفعل وتمادى بهم، وإن استتر بالقرب فصلاته وصلاتهم فاسدة، وهو قول سحنون في كتاب ابنه، خلاف قوله ههنا، ولا شيء على من لم ينظر إليه. وأما قوله إنه يعيد كل من نظر إليه منكشفا، فمعناه إذا تعمد النظر إليه؛ لأنه بذلك مرتكب للمحظور في صلاته، ولأن من نظر إليه على غير تعمد، فهو بمنزلة من لم ينظر؛ إذ لا إثم عليه في ذلك ولا حرج، ويلزم على قوله أن تبطل صلاة من عصى الله في صلاته بوجه من وجوه العصيان، خلاف ما ذهب إليه أبو إسحاق التونسي من أنه لا تبطل صلاته بذلك، وقال: أرأيت لو سرق دراهم لرجل في صلاته، أو غصبه ثوبا فيها- وبالله التوفيق.

.مسألة صلى بقوم فمر به إنسان فأخبره بخبر يسره فحمد الله تعالى لذلك عامدا:

وسئل ابن القاسم عن رجل صلى بقوم فمر به إنسان فأخبره بخبر يسره، فحمد الله تعالى لذلك عامدا، هل تفسد صلاته؟ أو يمر به إنسان فيخبره بمصيبة فيتوجع، أو يخبره ببعض ما يسوؤه فيقول: الحمد لله على كل حال، أو يسره حين سمعه فيقول: الحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات، قال ابن القاسم: لا يعجبني، فإن فعل رأيت صلاته تامة؛ لأن مالكا قال: إذا عطس الرجل في الصلاة، يحمد الله ويخفيه في نفسه، وكان أحب إلى مالك ترك ذلك في الصلاة؛ فإن فعل لم تفسد صلاته، وكذلك الذي سألت عنه إن حمد الله لشيء أخبر به، أو استرجع لشيء أخبر به، فلا يعجبني، فإن فعل، رأيت صلاته تامة.
قال محمد بن رشد: وهذا كما قال؛ لأن المصلي ينبغي له أن يقبل على صلاته ولا يشتغل بما سواها من الإصغاء إلى من يخبره بما يسره فيحمد الله، أو يسوؤه فيتوجع؛ فإن فعل لم تبطل صلاته؛ لأن ذلك من ذكر الله؛ وقد رفع أبو بكر رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يديه في صلاته، وحمد الله على ما أمره به رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من أن يمكث في موضعه، إلا أن هذا قد أساء؛ إذ أصغى في صلاته إلى استماع ما يسره من أمور الدنيا، فحمد الله على ذلك، وترك ما هو آكد عليه من ذلك- وهو الإقبال على صلاته، وقد مضى ما يشبه هذا المعنى في موضعين من رسم الصلاة الثاني في نحو وسطه وقرب آخره- وبالله التوفيق.

.مسألة صلى فدخل عليه داره رجل فصاح به فسبح به:

وسئل ابن القاسم عن رجل صلى فدخل عليه داره رجل فصاح به، فسبح به، فقال: سبحان الله- يريد بذلك أن يخبر صاحبه أنه يصلي، هل يفسد ذلك صلاته؟ قال ابن القاسم: التنحنح عند مالك شديد فكرهه، وأما التسبيح فلا بأس به- وإن تعمد بالتسبيح ليعلم صاحبه مكانه.
قال محمد بن رشد: أجاز التسبيح في الصلاة لما ينوبه فيها- وإن كان ذلك فيما لا يتعلق بإصلاحها، مثل ما في المدونة- سواء؛ ودليله قول النبي- عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ- «من نابه شيء في صلاته فليسبح»؛ لأنه كلام قائم مستقل بنفسه، فيحمل على عمومه فيما يتعلق بإصلاح الصلاة، وفيما لا يتعلق بإصلاحها، ولا يقصر على ما يتعلق بإصلاحها- وإن كان الكلام خرج على ذلك السبب؛ وقد قيل: إنه يقصر على سببه، والأول أصح القولين في النظر. وقد اختلف فيما عدا التسبيح من ذكر الله، وقراءة القرآن- إذا رفع بذلك صوته لإنباه رجل، فلم ير ذلك أشهب كالكلام، ورآه ابن القاسم كالكلام، فأفسد به الصلاة؛ وانظر في تكبير المكبر في الجوامع، هل: يدخله هذا الاختلاف أم لا؟ والأظهر أنه لا يدخله؛ لأنه مما يختص بإصلاح الصلاة، ويشهد له حديث صلاة الناس بصلاة أبي بكر خلف النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في مرضه؛ وأما إنكاره للتنحنح في الصلاة، فهو مثل ما مضى له في رسم البز من سماع ابن القاسم، وقد تقدم القول على ذلك هناك.

.مسألة امرأة صلت في صف من صفوف الرجال:

وسئل ابن القاسم عن امرأة صلت في صف من صفوف الرجال: عن يمينها رجل، وعن يسارها رجل، ومن ورائها رجل؛ هل تفسد صلاة هؤلاء الثلاثة؟ فقال ابن القاسم: لا تفسد صلاتهم. قال موسى بن معاوية: وسئل ابن القاسم عن إمام صلى- وخلفه رجال ونساء، فدخل قوم آخرون فلم يجدوا سعة إلى صفوف الرجال من كثرة النساء، فصلوا من وراء النساء، هل تفسد صلاتهم؟ قال ابن القاسم: قال مالك: لا تفسد صلاتهم- وإن كان النساء بين أيديهم، وصلاتهم تامة؛ وسئل ابن القاسم عن إمام صلى برجل ونساء، فقام الرجل عن يمين صاحبه، والنساء من خلفهما، فأحدث الإمام فقدم صاحبه، هل يصلي بالنساء اللائي خلفه؟ وكيف به إن خرج ولم يستخلف صاحبه، ونوى صاحبه أن يصلي لنفسه ويصلي بمن معه من النساء؟
قال ابن القاسم: يصلي المستخلف بالنساء، وإن خرج الإمام ولم يستخلف، فإن صلاة الباقي تجزئ من خلفه من النساء- إذا نوى أن يكون إمامهن. وسئل ابن القاسم عن إمام صلى خلفه نساء، وعن يمينه نساء، وعن يساره نساء، وبين يديه نساء، يصلين بصلاته، ويأتممن به،- وهو ينوي إمامتهن، والصلاة بهن؛ هل تفسد صلاته وصلاة من معه؟ أم تجزئهم صلاتهم؟ قال ابن القاسم: قد أساء- وصلاة الإمام تامة، وصلاة النساء تامة- إذا أردن أن يأتممن به، أو نوى هو في نفسه أن يؤمهن- وهو قول مالك.
قال محمد بن رشد: المسألة كلها صحيحة بينة في المعنى، غير مفتقرة إلى كلام مثل ما في المدونة- نصا، ومعنى الاشتراط في إمامة الرجل بالنساء- إذا نوى أن يكون إمامهن، فإن ذلك خلاف لما في المدونة من قوله إذا صلى الرجل لنفسه فأتى رجل فائتم به، فصلاته جائزة- نوى أن يؤم به أو لم ينو؛ ودليله حديث «ابن عباس إذ بات مع النبي عَلَيْهِ السَّلَامُ عند خالته ميمونة، فلما قام رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من الليل يصلي، قام إلى جانبه دون أن يستأذنه حتى يعلم أنه قد نوى أن يؤمه». ووجه القول الأول، أن الإمام يصلي لنفسه ولمن يأتم به، فيحمل عنهم القراءة، وما سوى الإحرام، والركوع، والسجود، والجلوس الآخر والسلام؛ واعتقاد نية الفريضة بما ألزمه رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من ضمان صلاتهم بقوله: «الإمام ضامن». فإذا لم ينو الإمامة بهم، لم تنتظم صلاته بصلاتهم، ولا حمل عنهم شيئا منها، ففسدت بذلك عليهم؛ فالقول الأول أتبع للأثر، وهذا أظهر من جهة النظر؛ وقد رأيت لأبي حنيفة- فيما أظن- أن ائتمام الرجل بالرجل دون أن ينوي أن يؤمه جائز، بخلاف ائتمام النساء به دون أن ينوي أن يؤمهن- وهو بعيد؛ ولعله ذهب- إن صح ذلك عنه- إلى أن الأصل الذي يعضده القياس، كان لا يصح الائتمام بمن لا يعتقد الإمامة، فخرج من ذلك ائتمام الرجل بمن لا ينوي الإمام، لحديث ابن عباس؛ وبقي النساء على الأصل في أنهن لا يجوز لهن أن يأتممن من لا ينوي الإمامة- وبالله التوفيق.